صحيفة إضاءات الشرقية الإلكترونية 

منذ 11 ساعة و 10 دقيقة 0 41 0
الذل المباح .
الذل المباح . إستمع للمحتوى

 

الكاتبة ـ مريم سليمان الجهني .


 

﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

 

الذل الذي ذكر في القرآن الكريم لم يكن ذلًا مكروهًا، وإنما هو إنزال النفس عن التكبر والقسوة، واستبداله باللين والتقرب. وقد خُصّ هذا النوع من الذل بالوالدين، بعيدًا عن التعصب بالرأي أو إجبارهما على فهم ما يريده الأبناء، متجاهلين الفوارق الزمنية والنفسية.

 

فالذل هنا أمر رباني، إخضاع للنفس عن العناد، من باب الطاعة لا الهوان، وهو جناح الرحمة الذي يمدّه الأبناء لوالديهم، يحنو بهم، يخفف عنهم تعبهم، ويصون قلوبهم. هو الوقوف إلى جانبهم بالكلمة الطيبة، بالابتسامة، بالونس والسؤال، حتى يشعروا بالإحتواء والحب، بدلًا من مجرد تنفيذ الأوامر أو الإبتعاد عن واجبات البرّ. وكلما خفض الأبناء جناحهم تعاظمت بلاغة التصوير القرآني، فجناح الذل هنا يصوّر العلاقة الحيّة بين الأبناء ووالديهم.

 

ولم يأتِ برّ الوالدين مجرد توصية أخلاقية، بل قرنه الله سبحانه بالتوحيد:

﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]،

فجعل الإحسان إليهما بعد التوحيد مباشرة، في دلالة قاطعة على أن رضا الله لا يُنال مع العقوق، وأن الطريق إلى الله يمر عبر بابهما.

 

نشاهد اليوم بعض الأبناء يجادلون والديهم بإصرار على أن يُفهموهم ما يريدونه، وكأن الطلب حقٌّ مكتسب. وقد أمر الله:

﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾،

فنَهى عن أضيق كلمة، ليؤسّس لاحترام يحفظ القلوب من الأذى.

 

حتى لو كان الوالدان شابين، لا يحق للأبناء أن يفرضوا عليهم التفكير مثل تفكيرهم، أو أن يطلبوا منهم التنازل عن مبادئهم. التغيير الحقيقي يبدأ من خفض النفس وخضوعها، لا من محاولة تصحيح من لم نُكلّف بتصحيحهم.

 

نشاهد أحيانًا الآباء كبار السن يعيشون في منازلهم القديمة، مسرحًا للذكريات وصدى صراخ الأطفال بين أركان البيت، يسامرون الماضي بصمتهم، بينما يسعى الأبناء لإقحامهم في منازل فخمة خالية من ذكرياتهم، بحجة الفخامة والتميّز. وهنا يدخل بعض الأبناء في دائرة العقوق، حين يظنون أن علمهم أو مركزهم يسمح لهم بتصحيح الوالدين، بينما الحقيقة أنهم خُلقوا ليمدوا أيديهم بالحب والإحترام، بكمال طريقهم لا لتغيير الطريق بدون إرادتهم.

 

كما أن بعض الأبناء ينشغلون عن السؤال عن والديهم ومجالستهم، مع أن تقاعدهما يكفيهما ماديًا، وما يحتاجانه حقًا هو السؤال عنهما، مجالستهما، والونس معهما بالكلمة الطيبة والإبتسامة. مثلًا: يمكن للأبناء أن يخصصوا جزءًا من يومهم للجلوس مع والديهم، يستمعون لذكرياتهما، يسألون عن أحوالهما، يساعدون الأم في ترتيب بعض الأشياء في المنزل، ويشاركون الأب ببعض أحاديثه اليومية. هذه اللحظات اليومية الصغيرة تصنع البرّ الحقيقي وتملأ القلوب دفئًا وسكينة.

 

وبعض الأبناء يكررون على والدهم أو والدتهم: «لا تخرج، أنت متعب»، بحجة راحتهم، دون أن يعلموا أن التصريح بعدم قدرتهم على الخروج قد يكون موجعًا جدًا. هنا يظهر دور سياسة الرد الحكيمة: بدلاً من المنع المباشر، يمكن اختيار كلمات لطيفة، أسلوب مشجع، أو ترتيب الظروف بطريقة تراعي طاقتهم وحاجتهم للحرية والتحرك، فهذا يحفظ كرامتهم ويزيد من برّهم دون إيقاع الأذى النفسي. مثلًا: يمكن للأبناء أن يقولوا: “هل تحب أن نخرج قليلًا للحديقة؟ سنرافقك حتى تكون مرتاحًا”، بدل فرض القرار عليهم بالقوة.

 

وقد دلّت قصة جُرَيْج العابد على خطورة التفريط في حق الوالدين، حين غرق في عبادته بصومعته، وصرخت عليه أمه بغضب ونادته وهو في صلاته. لم يرفع جناحه تعاليًا، ولم يقل «أف» أو يرفض، ولكنه واصل عبادته كما استطاع. فكانت دعاء والدته سبب ابتلائه، لتذكيره أن العبادة مهما علت لا تبرّر تجاهل حق الوالدين، وأن البرّ والتواضع بالحب والطاعة هما اللذان يصون القلوب ويقوّي الروابط بين الأبناء والوالدين.

 

فمن كان له والدان على قيد الحياة، فليحمد الله أن حبال الدعاء ما تزال ممتدة بين الأرض والسماء، ومن كانا تحت التراب، فليبرّهما بالدعاء والصدقة والإستغفار، ويستمر في ربط قلبه بوالديه روحيًا.

 

فالذل المباح ليس مهانة، ولا الطاعة قيدًا، بل هو جناح الرحمة الذي يمدّه الأبناء لوالديهم، يحميهم، ويصون قلوبهم. والبرّ الحقيقي لا يُقاس بالمال ولا بالمشاريع، بل بالسؤال عن الوالدين، ومجالستهم، والكلمة الطيبة، وسياسة الرد الحكيمة التي تحفظ كرامتهم وتخفف عنهم المشقة.

 

إنهما أبواب الجنة، والمفاتيح بيدكم؛ فمن أحسن إليهما فقد ملك المفاتيح، ومن قسى وغفل عن حقهما ضاعت من بين يديه. اجعلوا قلوبكم خاشعة، وأيديكم ممتدة بالحب، وألسنتكم حاملة للكلمة الطيبة، فإن ذلك هو الطريق إلى السعادة الحقيقية ورضا الله الأبدي.

 

فاليوم هم بين أحضاننا، نستمع لهم ونفرح معهم وندعمهم… وغدًا قد لا نراهم إلا في دار الفناء، حينها يبقى الصوت الذي أحببناه صامتًا أبديًا. فلتكن محبتكم لهم جناحًا يرفعهم عن الوحدة، وذكركم لهم صدىً يبقى في قلوبهم دائمًا.

 

فالبرّ أن تفعلوا ما يريدون هم لا ما تريدون أنتم،

وأن تسبقوا مشاعرهم قبل كلماتهم،

فتفهموا ما يفكرون به، وتشعروا بما يثقل قلوبهم،

حتى وإن لم يتحدثوا.

رحم الله تقصيرنا، وأعاننا على مجاهدة أنفسنا لنبلغ هذه الدرجات العالية من البرّ،

برّ القلوب قبل الأفعال، وبرّ الفهم قبل الطلب.

ويدخل في البرّ أيضًا بعد موتهم، أن نفعل ما كانوا يفعلون،

ونصل من كانوا يصلون، لنبلغ درجات البرّ حتى بعد انقطاعهم عنا.

 

اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا أحياءًا وأمواتًا،

وأعنّا على خفض جناح الذلّ لهما من رحمتك،

واجعل قلوبنا رحيمة، وألسنتنا طيبة، وأيدينا ممتدة بالحب،

ووفقنا لنكمل طريقهما بالخير والمحبة،

ولا تحرمنا أجر الدعاء لهما بعد وفاتهما،

واجعلنا من الذين يدخلون الجنة ببرّهما ورضاهما، يا أرحم الراحمين .

صحيفة إضاءات الشرقية الإلكترونية

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

ابراهيم حكمي
المدير العام
المدير الفني للموقع

شارك وارسل تعليق